الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
.[شَرَفُ الْعِلْمِ وَفَضْلُهُ]: وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُرْوَى عَنْ بَعْضِهِمْ: مِنَ التَّزْهِيدِ فِي الْعِلْمِ، شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ. كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: نَحْنُ نَأْخُذُ عِلْمَنَا مِنَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَأَنْتُمْ تَأْخُذُونَهُ مِنْ حَيٍّ يَمُوتُ.وَقَوْلِ الْآخَرِ- وَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَرْحَلُ حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ- فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ بِالسَّمَاعِ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، مَنْ يَسْمَعُ مِنَ الْخَلَّاقِ؟وَقَوْلِ الْآخَرِ: الْعِلْمُ حِجَابٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.وَقَوْلِ الْآخَرِ: لَنَا عِلْمُ الْحَرْفِ. وَلَكُمْ عِلْمُ الْوَرَقِ.وَنَحْوِ هَذَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَحْسَنُ أَحْوَالِ قَائِلِهَا: أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ، أَوْ شَاطِحًا مُعْتَرَفًا بِشَطْحِهِ، وَإِلَّا فَلَوْلَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَمْثَالُهُ، وَلَوْلَا أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا لَمَا وَصَلَ إِلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ.وَمَنْ أَحَالَكَ عَلَى غَيْرِ أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فَقَدْ أَحَالَكَ: إِمَّا عَلَى خَيَالِ صُوفِيٍّ، أَوْ قِيَاسِ فَلْسَفِيٍّ. أَوْ رَأْيِ نَفْسِيٍّ. فَلَيْسَ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا إِلَّا شُبَهَاتُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَآرَاءُ الْمُنْحَرِفِينَ، وَخَيَالَاتُ الْمُتَصَوِّفِينَ، وَقِيَاسُ الْمُتَفَلْسِفِينَ. وَمَنْ فَارَقَ الدَّلِيلَ، ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وَلَا دَلِيلَ إِلَى اللَّهِ وَالْجَنَّةِ، سِوَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَكُلُّ طَرِيقٍ لَمْ يَصْحَبْهَا دَلِيلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَهِيَ مِنْ طُرُقِ الْجَحِيمِ، وَالشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.وَالْعِلْمُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَالنَّافِعُ مِنْهُ: مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَالْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْحَالِ: الْعِلْمُ حَاكِمٌ. وَالْحَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ هَادٍ. وَالْحَالُ تَابِعٌ. وَالْعِلْمُ آمِرٌ نَاهٍ. وَالْحَالُ مَنْفَذٌ قَابِلٌ، وَالْحَالُ سَيْفٌ، إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الْعِلْمُ فَهُوَ مِخْرَاقٌ فِي يَدِ لَاعِبٍ. الْحَالُ مَرْكِبٌ لَا يُجَارَى. فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ عِلْمٌ أَلْقَى صَاحِبَهُ فِي الْمَهَالِكِ وَالْمَتَالِفِ. وَالْحَالُ كَالْمَالِ يُؤْتَاهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ نُورُ الْعِلْمِ كَانَ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهِ.الْحَالُ بِلَا عِلْمٍ كَالسُّلْطَانِ الَّذِي لَا يَزَعُهُ عَنْ سَطْوَتِهِ وَازِعٌ.الْحَالُ بِلَا عِلْمٍ كَالنَّارِ الَّتِي لَا سَائِسَ لَهَا.نَفْعُ الْحَالِ لَا يَتَعَدَّى صَاحِبَهُ. وَنَفْعُ الْعِلْمِ كَالْغَيْثِ يَقَعُ عَلَى الظِّرَابِ وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ.دَائِرَةُ الْعِلْمِ تَسَعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَدَائِرَةُ الْحَالِ تَضِيقُ عَنْ غَيْرِ صَاحِبِهِ. وَرُبَّمَا ضَاقَتْ عَنْهُ.الْعِلْمُ هَادٍ وَالْحَالُ الصَّحِيحُ مُهْتَدٍ بِهِ. وَهُوَ تَرِكَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَتُرَاثُهُمْ. وَأَهْلُهُ عُصْبَتُهُمْ وَوُرَّاثُهُمْ، وَهُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ. وَنُورُ الْبَصَائِرِ. وَشِفَاءُ الصُّدُورِ. وَرِيَاضُ الْعُقُولِ. وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ. وَأَنَسُ الْمُسْتَوْحِشِينَ. وَدَلِيلُ الْمُتَحَيِّرِينَ. وَهُوَ الْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ تُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ وَالْأَحْوَالُ.وَهُوَ الْحَاكِمُ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ.بِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُعْبَدُ، وَيُذْكَرُ وَيُوَحَّدُ، وَيُحْمَدُ وَيُمَجَّدُ. وَبِهِ اهْتَدَى إِلَيْهِ السَّالِكُونَ. وَمِنْ طَرِيقِهِ وَصَلَ إِلَيْهِ الْوَاصِلُونَ. وَمِنْ بَابِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاصِدُونَ.بِهِ تُعْرَفُ الشَّرَائِعُ وَالْأَحْكَامُ، وَيَتَمَيَّزُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ. وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ وَبِهِ تُعْرَفُ مَرَاضِي الْحَبِيبِ، وَبِمَعْرِفَتِهَا وَمُتَابَعَتِهَا يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ.وَهُوَ إِمَامٌ، وَالْعَمَلُ مَأْمُومٌ. وَهُوَ قَائِدٌ، وَالْعَمَلُ تَابِعٌ. وَهُوَ الصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالْأَنِيسُ فِي الْوَحْشَةِ. وَالْكَاشِفُ عَنِ الشُّبْهَةِ. وَالْغِنَى الَّذِي لَا فَقْرَ عَلَى مَنْ ظَفِرَ بِكَنْزِهِ. وَالْكَنَفُ الَّذِي لَا ضَيْعَةَ عَلَى مَنْ آوَى إِلَى حِرْزِهِ.مُذَكَرَاتُهُ تَسْبِيحٌ. وَالْبَحْثُ عَنْهُ جِهَادٌ. وَطَلَبُهُ قُرْبَةٌ. وَبَذْلُهُ صَدَقَةٌ. وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ. وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْهَا إِلَى الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: النَّاسُ إِلَى الْعِلْمِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. لِأَنَّ الرَّجُلَ يَحْتَاجُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. وَحَاجَتُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ.وَرُوِّينَاعَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ.وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: كُنْتُ بَيْنَ يَدِي مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَوَضَعْتُ أَلْوَاحِي وَقُمْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ: مَا الَّذِي قُمْتَ إِلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا قُمْتَ عَنْهُ.ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ.وَاسْتَشْهَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَجَلِّ مَشْهُودٍ بِهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَقَرَنَ شَهَادَتَهُمْ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ مَلَائِكَتِهِ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَعْدِيلُهُمْ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَسْتَشْهِدُ بِمَجْرُوحٍ.وَمِنْ هَاهُنَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- يُؤْخَذُ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ. يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَتَأْوِيلَ الْمُبْطِلِينَ.وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ. وَقَائِدُهُمْ وَدَلِيلُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ. وَمُدْنِيهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ.وَيَكْفِي فِي شَرَفِهِ: أَنَّ فَضْلَ أَهْلِهِ عَلَى الْعِبَادِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةِ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ لَهُمْ أَجْنِحَتَهَا، وَتُظِلُّهُمْ بِهَا، وَأَنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَحَتَّى النَّمْلُ فِي جُحْرِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ.وَلَقَدْ رَحَلَ كَلِيمُ الرَّحْمَنِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي طَلَبِ الْعِلْمِ هُوَ وَفَتَاهُ، حَتَّى مَسَّهُمَا النَّصَبُ فِي سَفَرِهِمَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ. حَتَّى ظَفِرَ بِثَلَاثِ مَسَائِلَ. وَهُوَ مِنْ أَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ وَأَعْلَمِهِمْ بِهِ.وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ فَقَالَ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.وَحَرَّمَ اللَّهُ صَيْدَ الْجَوَارِحِ الْجَاهِلَةِ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لِلْأُمَّةِ صَيْدَ الْجَوَارِحِ الْعَالِمَةِ.فَهَكَذَا جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ الْجَاهِلِ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ صَيْدُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ شَيْئًا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ..فَصْلٌ: [تَعْرِيفُ الْعِلْمِ]: قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ.الْعِلْمُ مَا قَامَ بِدَلِيلٍ. وَرَفَعَ الْجَهْلَ تَعْرِيفَ الْعِلْمِ.يُرِيدُ: أَنَّ لِلْعِلْمِ عَلَامَةً قَبْلَهُ، وَعَلَامَةً بَعْدَهُ، فَعَلَامَتُهُ قَبْلَهُ: مَا قَامَ بِهِ الدَّلِيلُ. وَعَلَامَتُهُ بَعْدَهُ: رَفْعُ الْجَهْلِ..[دَرَجَاتُ الْعِلْمِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى عِلْمٌ جَلِيٌّ]: قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثٍ دَرَجَاتُ الْعِلْمِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: عِلْمٌ جَلِيٌّ. بِهِ يَقَعُ الْعِيَانُ. وَاسْتِفَاضَةٌ صَحِيحَةٌ، أَوْ صِحَّةُ تَجْرِبَةٍ قَدِيمَةٍ.يُرِيدُ بِالْجَلِيِّ: الظَّاهِرَ، الَّذِي لَا خَفَاءَ بِهِ. وَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ.أَحَدُهَا: مَا وَقَعَ عَنْ عِيَانٍ. وَهُوَ الْبَصَرُ.وَالثَّانِي: مَا اسْتَنَدَ إِلَى السَّمْعِ. وَهُوَ عِلْمُ الِاسْتِفَاضَةِ.وَالثَّالِثُ: مَا اسْتَنَدَ إِلَى الْعَقْلِ. وَهُوَ عِلْمُ التَّجْرِبَةِ.فَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ- وَهِيَ السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْعَقْلُ- هِيَ طُرُقُ الْعِلْمِ وَأَبْوَابُهُ وَلَا تَنْحَصِرُ طُرُقُ الْعِلْمِ فِيمَا ذَكَرَهُ. فَإِنَّ سَائِرَ الْحَوَاسِّ تُوجِبُ الْعِلْمَ.وَكَذَا مَا يُدْرَكُ بِالْبَاطِنِ. وَهِيَ الْوِجْدَانِيَّاتُ.وَكَذَا مَا يُدْرَكُ بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا.وَكَذَا مَا يَحْصُلُ بِالْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَجْرِبَةٍ.فَالْعِلْمُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَقَطْ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْرِفَةِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ.أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لُبُّ الْعِلْمِ، وَنِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِحْسَانِ. وَهِيَ عِلْمٌ خَاصٌّ، مُتَعَلِّقُهَا أَخْفَى مِنْ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ وَأَدَقُّ.وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي يُرَاعِيهِ صَاحِبُهُ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ. فَهِيَ عِلْمٌ تَتَّصِلُ بِهِ الرِّعَايَةُ.وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ شَاهِدٌ لِنَفْسِهَا، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ، الَّتِي لَا يُمْكِنُ صَاحِبُهَا أَنْ يَشُكَّ فِيهَا، وَلَا يَنْتَقِلَ عَنْهَا.وَكَشْفُ الْمَعْرِفَةِ أَتَمُّ مِنْ كَشْفِ الْعِلْمِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ..فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ عِلْمٌ خَفِيٌّ]: قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: عِلْمٌ خَفِيٌّ. يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ، مِنَ الْأَبْدَانِ الزَّاكِيَةِ، بِمَاءِ الرِّيَاضَةِ الْخَالِصَةِ، وَيَظْهَرُ فِي الْأَنْفَاسِ الصَّادِقَةِ، لِأَهْلِ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ، فِي الْأَحَايِينِ الْخَالِيَةِ، وَالْأَسْمَاعِ الصَّاخِيَةِ. وَهُوَ عِلْمٌ يُظْهِرُ الْغَائِبَ، وَيُغَيِّبُ الشَّاهِدَ، وَيُشِيرُ إِلَى الْجَمْعِ.يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ خَفَّيٌّ عَلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ الْأَوْلَى، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَعْرِفَةِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ.قَوْلُهُ: يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ.لَفْظُ السِّرِّ يُطْلَقُ فِي لِسَانِهِمْ وَيُرَادُ بِهِ أُمُورٌ.أَحَدُهَا: اللَّطِيفَةُ الْمُودَعَةُ فِي هَذَا الْقَالَبِ، الَّتِي حَصَلَ بِهَا الْإِدْرَاكُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ. وَذَلِكَ هُوَ الرُّوحُ.الثَّانِي: مَعْنًى قَائِمٌ بِالرُّوحِ. نِسْبِتُهُ إِلَى الرُّوحِ كَنِسْبَةِ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ. وَغَالِبًا مَا يُرِيدُونَ بِهِ: هَذَا الْمَعْنَى.وَعِنْدَهُمْ: أَنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مَا فِي الْبَدَنِ، وَالرُّوحَ أَشْرَفُ مِنَ الْقَلْبِ. وَالسِّرَّ أَلْطَفُ مِنَ الرُّوحِ.وَعِنْدَهُمْ: لِلسِّرِّ سِرٌّ آخَرُ. لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَصَاحِبُهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَإِنِ اطَّلَعَ عَلَى سِرِّهِ. فَيَقُولُونَ السِّرُّ مَا لَكَ عَلَيْهِ إِشْرَافٌ، وَسِرُّ السِّرِّ مَا لَا اطِّلَاعَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ.وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ: يُرَادُ بِهِ مَا يَكُونُ مَصُونًا مَكْتُومًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْرَارُنَا بِكْرٌ. لَمْ يَفْتَضَّهَا وَهْمُ وَاهِمٍ.وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: لَوْ عَرَفَ زِرِّي سِرِّي لِطَرَحْتُهُ.وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ: يَنْبُتُ فِي الْأَسْرَارِ الطَّاهِرَةِ.يَعْنِي: الطَّاهِرَةُ مِنْ كَدَرِ الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالِ بِهَا، وَعَلَائِقِهَا الَّتِي تَعُوقُ الْأَرْوَاحَ عَنْ دِيَارِ الْأَفْرَاحِ. فَإِنَّ هَذِهِ أَكْدَارٌ، وَتَنَفُّسَاتٌ فِي وَجْهِ مِرْآةِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. فَلَا تَنْجَلِي فِيهَا صُوَرُ الْحَقَائِقِ كَمَا يَنْبَغِي. وَالنَّفْسُ تَنَفَّسُ فِيهَا دَائِمًا بِالرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّهْبَةِ مِنْ فَوْتِهَا. فَإِذَا جُلِيَتِ الْمِرْآةُ بِإِذْهَابِ هَذِهِ الْأَكْدَارِ صَفَتْ. وَظَهَرَتْ فِيهَا الْحَقَائِقُ وَالْمَعَارِفُ.وَأَمَّا الْأَبْدَانُ الزَّكِيَّةُ.فَهِيَ الَّتِي زَكَتْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَنَبَتَتْ عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ. فَمَتَى خَلَصَتِ الْأَبْدَانُ مِنَ الْحَرَامِ، وَأَدْنَاسِ الْبَشَرِيَّةِ، الَّتِي يَنْهَى عَنْهَا الْعَقْلُ وَالدِّينُ وَالْمُرُوءَةُ، وَطَهُرَتِ الْأَنْفُسُ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا: زَكَتْ أَرْضُ الْقَلْبِ. فَقَبِلَتْ بَذْرَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. فَإِنْ سُقِيَتْ- بَعْدَ ذَلِكَ- بِمَاءِ الرِّيَاضَةِ الشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ- وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنْ عِلْمٍ، وَلَا تَبْعُدُ عَنْ وَاجِبٍ وَلَا تُعَطِّلُ سُنَّةً- أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَفَائِدَةٍ وَتَعَرُّفٍ. فَاجْتَنَى مِنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ جَالَسَهُ أَنْوَاعَ الطُّرَفِ وَالْفَوَائِدِ، وَالثِّمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالْأَذْوَاقِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا عُقِدَتِ الْقُلُوبُ عَلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي: جَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى أَصْحَابِهَا بِأَنْوَاعِ التُّحَفِ وَالْفَوَائِدِ.قَوْلُهُ: وَتَظْهَرُ فِي الْأَنْفَاسِ الصَّادِقَةِ يُرِيدُ بِالْأَنْفَاسِ أَمْرَيْنِ.أَحَدُهُمَا: أَنْفَاسُ الذِّكْرِ وَالْمَعْرِفَةِ.وَالثَّانِي: أَنْفَاسُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ. وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَذْكُورِ. وَبِالْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ مِنَ الذَّاكِرِ وَالْمُحِبِّ. وَصِدْقُهَا خُلُوصُهَا مِنْ شَوَائِبِ الْأَغْيَارِ وَالْحُظُوظِ.وَقَوْلُهُ: لِأَهْلِ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ فَهِيَ الَّتِي لَا تَقِفُ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَا تُعَرِّجُ فِي سَفَرِهَا عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ. وَأَعْلَى الْهِمَمِ: مَا تَعَلَّقَ بِالْعَلِيِّ الْأَعْلَى. وَأَوْسَعُهَا: مَا تَعَلَّقَ بِصَلَاحِ الْعِبَادِ. وَهِيَ هِمَمُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَوَرَثَتِهِمْ.وَقَوْلُهُ: فِي الْأَحَايِينِ الْخَالِيَةِ.يُرِيدُ بِهَا: سَاعَاتِ الصَّفَاءِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَوْقَاتِ النَّفَحَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، الَّتِي مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا يُوشِكُ أَنْ لَا يُحْرَمَهَا. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا فَهِيَ عَنْهُ أَشَدُّ إِعْرَاضًا.وَقَوْلُهُ: فِي الْأَسْمَاعِ الصَّاخِيَةِ فَهِيَ الَّتِي صَحَتْ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ، وَأَصَاخَتْ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ، وَمُنَادِي الْإِيمَانِ. فَإِنَّ الْبَاطِلَ وَاللَّغْوَ خَمْرُ الْأَسْمَاعِ وَالْعُقُولِ. فَصَحْوُهَا بِتَجَنُّبِهِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَى دَعْوَةِ الْحَقِّ.قَوْلُهُ: وَهُوَ عِلْمٌ يُظْهِرُ الْغَائِبَ أَيْ يَكْشِفُ مَا كَانَ غَائِبًا عَنِ الْعَارِفِ.قَوْلُهُ: وَيُغَيِّبُ الشَّاهِدَ أَيْ يُغِيِّبَهُ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى مَشْهُودِهِ الْحَقِّ.وَيُشِيرُ إِلَى الْجَمْعِ وَهُوَ مَقَامُ الْفَرْدَانِيَّةِ، وَاضْمِحْلَالُ الرُّسُومِ، حَتَّى رَسْمِ الشَّاهِدِ نَفْسِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ..فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ عِلْمٌ لَدُنِّيٌ]: قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: عِلْمٌ لَدُنِّيٌ. إِسْنَادُهُ وُجُودُهُ، وَإِدْرَاكُهُ عِيَانُهُ. وَنَعْتُهُ حُكْمُهُ. لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَيْبِ حِجَابٌ.يُشِيرُ الْقَوْمُ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِ إِلَى مَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بَلْ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ، وَتَعْرِيفٍ مِنْهُ لِعَبْدِهِ، كَمَا حَصَلَ لِلْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ مُوسَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}.وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ. وَجَعَلَهُمَا مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ إِذْ لَمْ يَنُلْهُمَا عَلَى يَدِ بِشْرٍ، وَكَانَ مِنْ لَدُنْهُ أَخَصَّ وَأَقْرَبَ مِنْ عِنْدِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} فَـالْسُلْطَانُ النَّصِيرُ الَّذِي مِنْ لَدُنْهُ سُبْحَانَهُ: أَخُصُّ وَأَقْرَبُ مِمَّا عِنْدَهُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}. وَهُوَ الَّذِي أَيَّدَهُ بِهِ. وَالَّذِي مِنْ عِنْدِهِ: نَصْرُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.وَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ ثَمَرَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَالصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَلَقِّي الْعِلْمِ مِنْ مِشْكَاةِ رَسُولِهِ. وَكَمَالِ الِانْقِيَادِ لَهُ. فَيَفْتَحُ لَهُ مِنْ فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ بِهِ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَدْ سُئِلَ هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ؟- فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسْمَةَ. إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ.فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ الْحَقِيقِيُّ , وَأَمَّا عِلْمُ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِمَا: فَهُوَ مِنْ لَدُنِ النَّفْسِ وَالْهَوَى، وَالشَّيْطَانِ، فَهُوَ لَدُنَّيٌّ. لَكِنْ مِنْ لَدُنْ مَنْ؟ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْعِلْمِ لَدُنَّيًّا رَحْمَانِيًّا: بِمُوَافَقَتِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ نَوْعَانِ: لَدُنِّيٌّ رَحْمَانِيٌّ، وَلَدُنِّيٌّ شَيْطَانِيٌّ بَطْنَاوِيٌّ. وَالْمَحَكُّ: هُوَ الْوَحْيُ. وَلَا وَحْيَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَأَمَّا قِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: فَالتَّعَلُّقُ بِهَا فِي تَجْوِيزِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْوَحْيِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ إِلْحَادٌ، وَكُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، مُوجِبٌ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ.وَالْفَرْقُ: أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إِلَى الْخَضِرِ. وَلَمْ يَكُنْ الْخَضِرُ مَأْمُورًا بِمُتَابَعَتِهِ. وَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى مُوسَى وَيَكُونَ مَعَهُ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ مُوسَى نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ.وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الثِّقْلَيْنِ. فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَلَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَيَّيْنِ لَكَانَا مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَإِذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْخَضِرِ مَعَ مُوسَى. أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ: فَلْيُجَدِّدْ إِسْلَامَهُ، وَلْيَتَشَهَّدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ. فَإِنَّهُ بِذَلِكَ مُفَارِقٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ. فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَاصَّةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَخُلَفَائِهِ وَنُوَّابِهِ.وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَقْطَعٌ وَمَفْرَقٌ بَيْنَ زَنَادِقَةِ الْقَوْمِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُمْ، فَحَرِّكْ تَرَهُ.قَوْلُهُ: إِسْنَادُهُ وُجُودُهُ.يَعْنِي: أَنَّ طَرِيقَ هَذَا الْعِلْمِ: وِجْدَانُهُ، كَمَا أَنَّ طَرِيقَ غَيْرِهِ: هُوَ الْإِسْنَادُ.وَإِدْرَاكُهُ عِيَانَهُ. أَيْ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَا يُؤْخَذُ بِالْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ عِيَانًا وَشُهُودًا.وَنَعْتُهُ حُكْمُهُ. يَعْنِي: أَنَّ نُعُوتَهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ، فَهِيَ قَاصِرَةٌ عَنْهُ، يَعْنِي أَنَّ شَاهِدَهُ مِنْهُ، وَدَلِيلَ وُجُودِهِ. وَإِنِّيَتَهُ لِمِّيَّتُهُ، فَبُرْهَانُ الْإِنِّ فِيهِ. هُوَ بُرْهَانُ اللَّمِّ. فَهُوَ الدَّلِيلُ. وَهُوَ الْمَدْلُولُ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُيُوبِ حِجَابٌ. بِخِلَافِ مَا دُونَهُ مِنَ الْعُلُومِ. فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُلُومِ حِجَابًا.وَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ: هُوَ نُورٌ مِنْ جَنَابِ الْمَشْهُودِ. يَمْحُو قُوَى الْحَوَاسِّ وَأَحْكَامَهَا. وَيَقُومُ لِصَاحِبِهَا مَقَامَهَا. فَهُوَ الْمَشْهُودُ بِنُورِهِ، وَيَفْنَى مَا سِوَاهُ بِظُهُورِهِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مَعْنَى الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ فَإِذَا أَحْبَبْتَهُ كُنْتَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، فَبِي يَسْمَعُ. وَبِي يُبْصِرُ.وَالْعِلْمُ اللَّدُنِيُّ الرَّحْمَانِيُّ: هُوَ ثَمَرَةُ هَذِهِ الْمُوَافَقَةِ، وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي أَوْجَبَهَا التَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ.وَاللَّدُنِّيُّ الشَّيْطَانِيُّ: ثَمَرَةُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْوَحْيِ، وَتَحْكِيمِ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ..فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْحِـكْمَةِ: وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْحِـكْمَةِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} وقال تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} وقال عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}.الْحِكْمَةُ وَحَقِيقَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَانِ: مُفْرَدَةٌ. وَمُقْتَرِنَةٌ بِالْكِتَابِ. فَالْمُفْرَدَةُ: فُسِّرَتْ بِالنُّبُوَّةِ، وَفُسِّرَتْ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ عِلْمُ الْقُرْآنِ: نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ. وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ. وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. وَأَمْثَالِهِ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْقُرْآنُ وَالْفَهْمُ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقُرْآنُ وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: هِيَ الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هِيَ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ وَفَهْمُهَا.وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ. كَأَنَّهُ فَسَّرَهَا بِثَمَرَتِهَا وَمُقْتَضَاهَا.وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْكِتَابِ: فَهِيَ السُّنَّةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ.وَقِيلَ: هِيَ الْقَضَاءُ بِالْوَحْيِ. وَتَفْسِيرُهَا بِالسُّنَّةِ أَعَمُّ وَأَشْهَرُ.وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ. قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَمَالِكٍ: إِنَّهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَالْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ، وَالْفِقْهِ، فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ.وَالْحِكْمَةُ حِكْمَتَانِ: عِلْمِيَّةٌ، وَعَمَلِيَّةٌ. فَالْعِلْمِيَّةُ: الِاطِّلَاعُ عَلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ. وَمَعْرِفَةُ ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبِّبَاتِهَا، خَلْقًا وَأَمْرًا. قَدَرًا وَشَرْعًا.وَالْعِلْمِيَّةُ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ وَهِيَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ..[دَرَجَاتُ الْحِكْمَةِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ تُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ حَقَّهُ]: قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْحِكْمَةُ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ حَقَّهُ وَلَا تَعُدِّيَهُ حَدَّهُ، مِنْ دَرَجَاتِ الْحِكْمَةِ وَلَا تُعَجِّلَهُ عَنْ وَقْتِهِ، وَلَا تُؤَخِّرَهُ عَنْهُ.لَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ لَهَا مَرَاتِبُ وَحُقُوقٌ، تَقْتَضِيهَا شَرْعًا وَقَدَرًا. وَلَهَا حُدُودٌ وَنِهَايَاتٌ تَصِلُ إِلَيْهَا وَلَا تَتَعَدَّاهَا. وَلَهَا أَوْقَاتٌ لَا تَتَقَدَّمُ عَنْهَا وَلَا تَتَأَخَّرُ- كَانَتِ الْحِكْمَةُ مُرَاعَاةَ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ. بِأَنْ تُعْطَى كُلُّ مَرْتَبَةٍ حَقَّهَا الَّذِي أَحَقَّهُ اللَّهُ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ. وَلَا تَتَعَدَّى بِهَا حَدَّهَا. فَتَكُونَ مُتَعَدِّيًا مُخَالِفًا لِلْحِكْمَةِ. وَلَا تَطْلُبُ تَعْجِيلَهَا عَنْ وَقْتِهَا فَتُخَالِفَ الْحِكْمَةَ. وَلَا تُؤَخِّرُهَا عَنْهُ فَتُفَوِّتَهَا.وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ مَعَ مُسَبَّبَاتِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا. فَإِضَاعَتُهَا تَعْطِيلٌ لِلْحِكْمَةِ بِمَنْزِلَةِ إِضَاعَةِ الْبَذْرِ وَسَقْيِ الْأَرْضِ.وَتَعَدِّي الْحَقِّ: كَسَقْيِهَا فَوْقَ حَاجَتِهَا، بِحَيْثُ يَغْرِقُ الْبَذْرُ وَالزَّرْعُ وَيَفْسُدُ.وَتَعْجِيلُهَا عَنْ وَقْتِهَا: كَحَصَادِهِ قَبْلَ إِدْرَاكِهِ وَكَمَالِهِ.وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ: إِخْلَالٌ بِالْحِكْمَةِ، وَتَعَدِّي الْحَدِّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، خُرُوجٌ عَنْهَا أَيْضًا. وَتَعْجِيلُ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْتِهِ: إِخْلَالٌ بِهَا. وَتَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ: إِخْلَالٌ بِهَا.فَالْحِكْمَةُ إِذًا: فِعْلُ مَا يَنْبَغِي، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْبَغِي.وَاللَّهُ تَعَالَى أَوْرَثَ الْحِكْمَةَ آدَمَ وَبَنِيهِ. فَالرَّجُلُ الْكَامِلُ: مَنْ لَهُ إِرْثٌ كَامِلٌ مِنْ أَبِيهِ، وَنِصْفُ الرَّجُلِ- كَالْمَرْأَةِ- لَهُ نِصْفُ مِيرَاثٍ، وَالتَّفَاوُتُ فِي ذَلِكَ لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ حِكْمَةً فِي هَذَا: الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَأَكْمَلُهُمْ أُولُو الْعَزْمِ. وَأَكْمَلُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِهَذَا امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ، وَعَلَى أُمَّتِهِ بِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}. وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}.فَكُلُّ نِظَامِ الْوُجُودِ مُرْتَبِطٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَكُلُّ خَلَلٍ فِي الْوُجُودِ، وَفِي الْعَبْدِ فَسَبَبُهُ: الْإِخْلَالُ بِهَا. فَأَكْمَلُ النَّاسِ: أَوْفَرُهُمْ نَصِيبًا. وَأَنْقَصُهُمْ وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ الْكَمَالِ: أَقَلُّهُمْ مِنْهَا مِيرَاثًا.وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ الْحِكْمَةُ وَآفَاتُهَا: الْعِلْمُ، وَالْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ.وَآفَاتُهَا وَأَضْدَادُهَا: الْجَهْلُ، وَالطَّيْشُ، وَالْعَجَلَةُ.فَلَا حِكْمَةَ لِجَاهِلٍ، وَلَا طَائِشٍ، وَلَا عَجُولٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
|